إن المعجزة الخالدة هي المعجزة القادرة على إعجاز العالم أجمع؛ فتعجز كل أناس بحسبهم؛ فتعجز البلغاء، وتعجز العلماء.
إنها المعجزة التي تستطيع أن تتخطى حدود المكان، وتعبر حاجز الزمان إلى كافة الأجيال.
إنها المعجزة التي لا تنتهي جدّتها في كل الأزمان؛ فتتكشف كل يوم عن جديد يلفت الأنظار، ويرسخ الإيمان.
إن معجزات العهد القديم والعهد الجديد لم تتحل بهذه السمات؛ فباتت في عصرنا الحاضر كأن لم تكن على الإطلاق.
فمعجزات الكتاب المقدس لا تلزم إلا من رآها، ولا يسلم بصحتها علم أو عقل بعد أن رفض العلم ورفض العقل الكتاب المقدس كلية، وبعد أن عدمت هذه المعجزات أي مصدر آخر ثقة يثبتها غير الكتاب المقدس فاقد الأهلية، عديم الثقة؛ إلا ما كان من روح الحق- محمد صلى الله عليه وسلم- الذي قال عنه المسيح عليه السلام: "هو يشهد لي" إنجيل يوحنا: 26:15 .
إلا أن أهل الكتاب لم يقبلوا شهادته من جهة، ومن جهة أخرى فإنه - صلى الله عليه وسلم- وإن شهد للأنبياء من قبله بالنبوة وعمل المعجزات إلا أنه شهد كذلك على ضياع إعجاز الكتاب المقدس الهدائي، كما شهد على ذلك العقل وكل حس إنساني.
إن نظرة متعمقة إلى الأديان الثلاثة السماوية: اليهودية، والمسيحية، والإسلام؛ لتدهش من حيرة أتباعها جميعًا في أمرها.
إلا أن متعلق حيرة أهل الكتاب ليختلف عن متعلق حيرة المسلمين، فحيرة أهل الكتاب أمام ركام ضخم من نصوص مقدسة لديهم منقطعة السند، مجهولة النسب، متعارضة مع نفسها ومع العقل ومع العلم، علاوة على نقصانها الذريع الذي تعترف به أمام كثير من الصعاب التي تواجهها؛ بالإضافة إلى صعوبتها التي كثيرًا ما تصل إلى حد الاستحالة سواء في الفهم أو التطبيق؛ هذا فضلا عن مضادة الكمال الأخلاقي: كارتكاب كبار أنبياء الكتاب المقدس الذين ينبغي أن يكونوا بالنسبة لنا في مقام الاقتداء لأبشع الجرائم الأخلاقية التي يترفع عنها عامة البشر؛ وكما يعلمنا سفر نشيد الإنشاد مما لا يليق التلفظ به خارج المخادع فضلا عن كونه جزءًا من كتاب مقدس يتعبد به، وكما يعلمنا سفر هوشع مما يتنافى مع أدنى درجات الخلق والكرامة.
ومن ثمة بذلت الجهود في محاولة حل هذه الإشكالات، إلا أن هذه المحاولات ما لبثت في عصر العلم أن تحولت إلى شبه اعترافات؛ بل وإلى اعترافات صريحة في كثير من الأحيان بهذه الإشكالات وأتت من أعلى الهيئات الدينية.
أما متعلق حيرة المسلمين فهو أوجه إعجاز كتابهم السماوي التي لا تنتهي والتي يتكشف كل يوم منها أمام العلم والعالم الجديد، فهناك الإعجاز العلمي، والإعجاز العددي، والاقتصادي، والمنهجي والفكري، والتربوي، والنفسي، والإعلامي، والبلاغي . . . الخ.
ومن ثمة ألفت المؤلفات، وعقدت في كل يوم مؤتمرات، وألقيت محاضرات عن أوجه إعجاز القرآن الكريم أسمعت العالم أجمع.
بل إن السنة النبوية نفسها لم تفتقد ذلك الجانب الذي لا يزال يتكشف عن جديد كل يوم أمام الباحثين.
إن وجود شيء من الأفكار الصحيحة بل والعظيمة عن الكون والحياة أمر جار عند كثير من الأقدمين؛ إلا أن ذلك يجب ألا يذهلنا عما بحوزتهم من الأفكار الخاطئة والساذجة أيضًا، وهذا مما يفصل القرآن كمعجزة خاتمة متعددة الجوانب عن غيره من مؤلفات بشرية.
فالقرآن قد تعرض لكل شيء في إسهاب ولم يخطئ في شيء قط؛ بل أيده العلم فيما توصل إليه، وتوقف فيما لم يتوصل إليه، ولم يعارضه قط؛ شهد بذلك أهل المشرق وأهل المغرب (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا) النساء:82 وأعني بالعلم هنا بالطبع حقائقه التي ثبتت بما لا يدع مجالا للشك، لا نظرياته المتغيرة مع الزمان.
إن الكتاب السماوي لما كان في متناول الإنسان يمسكه بيده ويقرؤه بلغته ويفهمه بعقله ويحققه بفعله ويتناقله عبر المكان والزمان ولا حاجة له ماسة إلى التواتر؛ فالنظر إلى متنه يغني عن الحديث عن سنده؛ فهو مضمون النبوة الحسي والعملي، وقد جرى عند المناطقة مجرى برهان "اللم" – أقوى البراهين المنطقية؛ فهو البرهان الذي يعطي السبب في التصديق بالحكم والسبب في وجود الحكم- كان من ثمة هو معجزة الرسالة الخاتمة الكبرى التي فاقت كل المعجزات وخاصة في اتحاد الدليل والمدلول.
فالقرآن هو نفسه الوحي المدّعى وهو الخارق المعجز الأكبر، فشاهده الأعظم في عينه، ولا يفتقر إلى دليل مغاير له، وهو معنى قوله – صلى الله عليه وسلم- : ( ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله عز وجل إليّ وأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا يوم القيامة ) رواه البخاري ومسلم . وقوله – صلى الله عليه وسلم-: ( ما أعطيت أمة من اليقين أفضل مما أعطيت أمتي ) رواه الحكيم عن سعيد بن مسعود.
وعلى الرغم من ذلك لم ينفرد القرآن بالإعجاز والعالمية؛ بل كان للنبي الخاتم محمد – صلى الله عليه وسلم- كثير من المعجزات الحسية المتنوعة الخالدة والتي تتوافق مع كافة درجات الوعي الإنساني مراعاة لاختلاف أحوال المخاطبين في كل زمان ومكان وإلى قيام الساعة كتحقق ما أخبر به– صلى الله عليه وسلم- من غيب أمام أعيننا كل يوم، وكمعجزاته– صلى الله عليه وسلم- الحسية المتواترة؛ وذلك أن خلود المعجزة لا يعني فقط حضورها الدائم بعينها ولكنه يشمل أيضًا تواترها اليقيني؛ وذلك أن المتواترات تولد من اليقين كمثل ما تولده المشاهدات والمعاينات، وقد سجل القرآن كثير من تلك المعجزات، كما في قوله تعالى: { ألم * غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم } [ الروم:1-5 ] وكما في قوله تعالى: { اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } [ القمر: 1-2 ] وغير ذلك كثير لا يتسع له مقامنا هنا.
فظهر الفرق بين متعلق الحيرتين: حيرة أهل الإسلام، وحيرة أهل الكتاب جليًا لمن كان له سمع أو بصر أو شيء من عقل.
فصدق الله العظيم القائل في شأنهم: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنهم فسحقًا لأصحاب السعير } [ الملك: 10-11] ؛ والقائل في شأننا وعلى لسان نبينا صلى الله عليه وسلم: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } [ يوسف: 108 ] .
والحمد لله رب العلمين
--------------